فصل: تفسير الآية رقم (138):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (138):

{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)}
لقد قالوا ذلك وهم مازالوا مغمورين في نعم الله إنجاء من عدو، واستخلافاً في الأرض، ومع ذلك بمجرد أن طلعوا إلى البر ورأوا جماعة يعبدون صنماً طالبوا موسى أن يجعل لهم صنماً يعبدونه. لقد حسدوا من يجهلون قيمة الإِيمان ويعكفون على عبادة الأصنام، ويعكف تعني أن يقيم إقامة لازمة، ومنه الاعتكاف في المسجد، أي الانقطاع عن حركة الحياة خارج المسجد إلى عبادة الله في بيته. {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ...} [الأعراف: 138].
وهذا القول من قوم موسى هو قمة الغباء، كأن الإِله بالنسبة لهم مجهول على رغم أنه قد أسبغ عليهم من النعم الكثير، وهذه أول خيبة، وهم يريدون أن يكون الإِله مجعولاً برغم أن الإِله بكمالاته وطلاقة قدرته جاعل، ولكن عقيلتهم لم تستوعب النعم الغامرة وقلوبهم مغلقة لم يعمها الإِيمان. وقالوا: اجعل لنا إلهاً! وأرادوا أن ينحت لهم الأصنام، وقد يقول واحد منهم: رأس الإِله كبيرة قليلاً صغّرها بعض الشيء، وأنفه غير مستقيمة فلنعدلها بالإِزميل، وقولهم: {اجعل لَّنَآ إلها}. وهذا ما يجعلنا نفهم أن عقولهم لم تستوعب حقيقة الإِيمان؛ لذلك يقول لهم موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}.
ولم يقل لهم: (لا تعلمون) بل قال: (تجهلون) لأن هناك فارقاً بين عدم العلم بالشيء، وبين الجهل بالشيء، فعدم العلم يعني أن الذهن قد يكون خالياً من أي قضية، أما (الجهل) فهو يعني أن تعلم مناقضاً للقضية، إذن فهناك قضية يعتقدها الجاهل ولكنها غير واقعية. أما الذي لا يعلم فليس في باله قضية، وحين تأتي له القضية يقتنع بها، ولا يحتاج ذلك إلى عملية عقلية واحدة مثل الأمي مثلاً الذي لا يعلم، لأن ذهنه خال من قضية، أما الذي يعلم قضية مخالفة فهو يحتاج من الرسول إلى عمليتين عقليتين: الأولى أن يخرج ما في نفسه من قضية الجهل، والثانية أن يعطي له القضية الجديدة، إن الذي يخرج ما في نفسه من قضية الجهل، والثانية أن يعطي له القضية الجديدة، إن الذي يرهق العالم هم الجهلاء لا الأميون، لأن الأمي حين تعطي له المعلومة فليس عنده ما يناقضها. لكن الجاهل عنده ما يناقضها ويخالف الواقع.
ويقول سبحانه بعد ذلك: {إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ...}.

.تفسير الآية رقم (139):

{إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)}
و{مُتَبَّرٌ} أي هالك ومدمر، وهنا يوضح لهم موسى أن هؤلاء الجماعة التي تعبد الأصنام؛ وهم وأصنامهم هالكون، وما يعملون هو باطل لأن قضايا الكون إن أردتم أن تعرفوا حقيقتها، فلابد لها من ثبوث، والحق ثابت لا يتغير أبداً لأن له واقعاً يُستقرأ، ومثال ذلك إذا حصلت حادثة بالفعل أمامنا جميعاً، ثم طلب من كل واحد على انفراد أن يقول ما رآه فلن نختلف في الوصف لأننا نستوحي واقعاً، لكن إن كانت القضية غير واقعية فكل واحد سيقولها بشكل مختلف، ولذلك نجد من لباقة القضاء أن القاضي يحاور الشهود محاورات ليتبيّن ما يثبتون عليه وما يتضاربون فيه. وإن كان الشهود يستوحون حقيقة واقعية، فلن يختلفوا في روايتهم، ولكنهم يختلفون حين لا يتأكد أحدهم من الواقعة أو أن تكون غير حقيقية.
والمثل العربي يقول: (إن كنت كذوباً فكن ذكوراً) أي إن كذبت- والعياذ بالله- وقلت قولاً غير صادق فعليك أن تتذكر كذبتك، وأنت لن تتذكرها لأنها أمر متخيّل وليس أمراً ثابتاً. وقد يجوز أن يأخذ غير الواقع زهوة ولمعاناً فنقول: إياك أن تغتر بهذه الزهوة لأن الحق سبحانه وتعالى يقول: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} [الرعد: 17].
لقد شبه سبحانه الباطل بالزبد وهو ما يعلو السائل أو الماء من الرغوة والقش والمخلفات التي تعوم على سطح المياه إنه يتلاشى ويذهب، أما ما ينفع الناس فيبقى. ونحن نختبر المعادن لنعرف هل هي مغشوشة أو لا.. ونعرضها على النار، فيطفوا ما فيها من مادة غير أصيلة وما فيها من شوائب، ويبقى في القاع المعدن الأصيل.
وهنا يقول الحق على لسان موسى: {إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 139].
والأحداث إما فعل أو قول، والقول: عملية اللسان، والفعل: لبقية الجوارح، وكل الأحداث ناشئة عن قول أو عن فعل، والقول والفعل معاً هما (عمل). ولذلك يقول الحق: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2].
إذن فالعمل يشمل القول، ويشمل الفعل.
وقوله الحق: {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إن الأصنام التي كانوا يصنعونها ويعبدونها، كانت تقوم على أقوال وأفعال، كأن يقولوا: يا هبلٍ، يا لات، يا عزّى، ويناجون هذه الأصنام ويطلبون منها أن تحقق لهم بعضاً من الأعمال وكانوا يقفون أمامها صاغرين أذلاء، إذن فقد صدر منهم قول وفعل يضمهما معاً العمل.
ويتابع الحق على لسان موسى عليه السلام: {قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ...}.

.تفسير الآية رقم (140):

{قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)}
هم حينما قالوا لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة، قال لهم أولاً: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، ثم قال: {إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}، وبعد ذلك رجع إلى الدليل على أن هذا طلب جهل، وأن الذين يعبدون الأصنام من دون الله إنما يفعلون باطلاً؛ فقال: {قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين}.
وقوله: {أَغَيْرَ الله} أي أن الإِله الذي عرفتم بالتجربة العملية أنه فضلكم على العالمين ورأيتم ما صنع بعدوكم الذي استذلكم وسامكم سوء العذاب، إنه قد أهلكه ودمره، هل يمكن أن تطلبوا ربًّا غيره؟
وقوله: {قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ} أي أأطلب لكم إلهاً غيره؟ وفي سؤاله هذا استنكار لأنه يتبعه بتفضيل الله لهم على العالم، ثم أراد أن يذكرهم بقمة التفضيل لهم فيقول سبحانه على لسان موسى: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ...}.

.تفسير الآية رقم (141):

{وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)}
وإذا سمعت (إذ) فافهم ان معناها ظرف زمان يريد الحق أن نتذكر ما حدث فيه، و(إذ) يعني جيداً ولا يغيب عن بالكم حين أنجاكم الله من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب وأفظعه وأشده.
ويقول بعدها مبيناً ومفسراً ذلك العذاب: {يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ}.
ونلحظ أنه لم يأت بالعطف هنا، فلم يقل: يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم. مما يدل على أنه جاء بقمة سوء العذاب؛ لأن الاحتقار، والتسخير هما جزء من العذاب. لكن قمة العذاب هي تقتيل الأبناء، واستحياء النساء.
وفي آية ثانية يقول سبحانه: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ...} [البقرة: 49].
أي أنهم تعرضوا للتقتيل، وتعرضوا للتذبيح، وفي آية ثالثة يقول: {إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ...} [إبراهيم: 6].
لقد جاء ب (الواو) هنا للعطف. لأن المتكلم هنا مختلف، فقد يكون المتكلم الله، وسبحانه يمتن بقمة النعم. لكن: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا}، فموسى يمتن بكل النعم التي ساقها الله إلى بني إسرائيل صغيرة وكبيرة.
ويذيل الحق الآية الكريمة: {وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ}.
هو بلاء شديد الإِيلام والوقع لفراق من يقتل أو يذبح، وبلاء آخر في الهم والحزن على من يستبقي من النساء لاستباحة أعراضهن وامتهانهن في الخدمة.
ويقول الحق بعد ذلك: {وَوَاعَدْنَا موسى...}.

.تفسير الآية رقم (142):

{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)}
وعلمنا من قبل في مسألة الأعداد أن هناك أسلوبين: الأسلوب الأول إجمالي، والثاني تفصيلي؛ فمرة يتفق التفصيل مع الإِجمال، وبذلك لا توجد شبهة أو إشكال، وسبحانه في سورة البقرة يقول: {وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً...} [البقرة: 51].
جاء بها هناك بالإِجمال. لكنه شاء هنا في سورة الأعراف ألا يأتي بها مرة واحدة مجملة. بل فصلها بثلاثين ليلة ثم أتمّها الحق بعشر أخر لمهمة سنعرفها فيما بعد، ليكون الميقات قد تم أربعين ليلة، وإذا جاء العدد مجملاً مرة، ومفصلاً مرة، واتفق الإِجمال مع التفصيل فلا إشكال. لكن إذا اختلف الإِجمال عن التفصيل فعادة يُحْمَل التفصيل على الإِجمال، لأن المفصَّل يمكن أن يتداخل ليصير إلى الإِجمال.
وضربنا من قبل المثل في خلق السماء والأرض في ستة أيام، وكل آيات الخلق تأتي بخبر الستة أيام وهي مجملة. لكنه شاء سبحانه في موضع آخر بالقرآن أن يقول: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ} [فصلت: 9-10].
وظاهر الأمر هنا أن المهمة قد اكتمل أمرها وخلقها في ستة أيام، لكنه قال جل وعلا بعدها: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ..} [فصلت: 11-12].
وهنا في موقف أيام خلق الدنيا نجد إجمالاً وتفصيلاً، والتفصيل يصل في ظاهر الأمر بأيام الخلق إلى ثمانية، والإِجمال يحكي أنها ستة أيام فقط.
فهل هي ستة أيام أم ثمانية أيام؟ نقول: إنها ستة أيام لأننا نستطيع أن ندخل المفصل بعضه في بعضه، فإذا قلت: سافرت من مصر إلى طنطا في ساعتين، وإلى الإِسكندرية في ثلاث ساعات، فمعنى هذا القول أن الساعتين دخلتا في الثلاث الساعات: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ}.
والوعد هو أن الله وعد موسى بعد أن تحدث عملية إنجاء بني إسرائيل أنه سبحانه سينزل عليه كتاباً يجمع فيه كل المنهج المراد من خلق الله لتسير حركة حياتهم عليه، لكن ما إن ذهب موسى لميقات ربه حتى عبدوا العجل، في مدة الثلاثين يوماً ولم يشأ الله أن يرسل موسى بعد الثلاثين يوماً بل أتمها بعشر آخر حتى لا يعود موسى ويرى ما فعله قومه؛ لأنه بعد أن عاد أمسك برأس أخيه يعنفه ويشتد عليه ويأخذ بلحيته يجره إليه إذ كيف سمح لبني إسرائيل أن يعبدوا العجل. وفي ذلك يقول الحق على لسان هارون: {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94].
فكأن العشرة أيام زادوا عن الثلاثين يوماً ليعطيك الصورة الأخيرة الموجودة في سورة البقرة.
وهنا يقول الحق في سورة الأعراف: {وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142].
و(اخلفني) أي كن خليفة لي فيهم إلى أن أرجع وذلك فيما هو مختص بموسى من الرسالة فاستخلاف موسى لهارون ليس تكليفاً لهارون بامتداد إرسال الله لموسى وهارون، فأسلوب تقديم موسى وهارون أنفسهما لفرعون جاء بضمير التثنية التي تجمع بين موسى وهارون: {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ...} [طه: 47].
لأن كلاًّ منهما رسول، وقول الحق: {وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ} فيه التحنن، أي أنني لي بك صلة قبل أن تكون شريكاً لي في الرسالة فأنا أخ لك وأنت أخ لي، ومن حقي عليك أن تسمع كلامي وتخلفني. فالأخوة مقرونة بأنك شريك معي في الرسالة إذن نجد أن موسى قد قدم حيثية الأخوة والمشاركة في الرسالة. وأكد موسى عليه السلام بكلمة (قومي) أنهم أعزاء عليه، ولا يريد بهم إلا الخير الذي يريده لنفسه، فإذا جاءكم بأمر فاعلموا أنه لصالحكم، وإذا نهاكم نهيّا فاعلموا أن موسى هو أول من يطبقه على نفسه.
وقيل كان موسى عليه السلام قد قام بإعداد نفسه للقاء ربه، ولابد أن يكون الإِعداد بطهر وبتطهير وبتزكية النفس بصيام، فصام ثلاثين يوماً، وبعد ذلك أنكر رائحة فمه، فأخذ سواكاً وتسوك به ليذهب رائحة فمه، فأوضح الحق سبحانه له: أما علمت يا موسى أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك. وما دمت قد أزلت الخلوف وأنا أريد أن تقبل عليّ بريح المسك فزد عشرة أيام؛ حتى تأتي كذلك. وقال بعض العلماء: إن تفصيل الأربعين إلى ثلاثين وإلى عشرة، لأن الثلاثين يوماً هي الأيام التي عبد فيها القوم بعد موسى العجل، فكان ولابد أن تكون هناك فترة من الفترات؛ حتى يميز الله الخبيث من الطيب. {وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} [الأعراف: 142].
وهنا أمر ونهى (أصلح) هي أمر، و(لا تتبع) هي نهي، ونعرف أن كل تكاليف الحق سبحانه وتعالى محصورة في (افعل كذا)، و(لا تفعل كذا)، ولا يقول الحق للمكلَّفين: (افعلوا كذا) إلا إذا كانوا صالحين للفعل ولعدم الفعل، وإن قال لهم: (لا تفعلوا) فلابد أن يكونوا صالحين للفعل ولعدم الفعل، ولذلك أوضحنا من قبل ان الله ركز كل التكاليف في مسألة آدم وحواء في الجنة فقال: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا}، وكان هذا هو الأمر. وقال: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة}، وهذا نهي: {وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين}.
وكلمة (أصلح) تستلزم أن يبقى الصالح على صلاحه فلا يفسده، وإن شاء الله يزيد فيه صلاحاً فليفعل.
وقوله: {وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين} لأنه قول موجه لنبي وهو هارون، لا يتأتى منه الإِفساد، ولكنَّ موسى أعلمه أنه ستقوم فتنة بعد قليل، فكأن موسى قد ألهم أنه سيحدث إفساد، فقصارى ما يطلبه من أخيه هارون ألاَّ يتبع سبيل المفسدين، ولذلك سيقول هارون بعد ذلك مبرراً تركه بني إسرائيل على عبادة العجل بعد أن بذل غاية جهده في منعهم وإنذارهم حتى قهروه واستضعفوه ولم يبق إلا أن يقتلوه. {... إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94].
ويقول الحق بعد ذلك: {وَلَمَّا جَآءَ موسى...}.